تركيا- صراع الكماليين، الانتخابات المبكرة، والاستقطاب الهوياتي

تشهد تركيا منذ أواخر شهر أغسطس/آب الماضي أيامًا عصيبة ومضطربة، ولا تزال هذه الأجواء المشحونة تخيّم على البلاد، حيث عادت مجددًا المخاوف من شبح الانقلابات العسكرية، بالتزامن مع تصاعد مطالب المعارضة بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة لإنهاء حالة الجمود السياسي.
ففي أعقاب حفل بهيج لتخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الحربية المرموقة، تجمّع حشد من الخريجين الواعدين بقيادة الملازمة الشابة إبرو إيروأوغلو، رافعين سيوفهم اللامعة، ومرددين بصوت واحد: "نحن جنود مصطفى كمال"، في إشارة إلى المؤسس الملهم للجمهورية التركية الحديثة.
وانتشر مقطع فيديو يوثق هذا المشهد على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، كالنار في الهشيم، ما أثار موجة عارمة من الجدل والنقاش المحتدم، خاصة مع ترديد الخريجين قسمًا على "استقلال جمهورية تركيا العلمانية الديمقراطيّة".
ورأى بعض المراقبين أن تصرف الخريجين يمثل فعلًا طبيعيًا، ومظهرًا من مظاهر الولاء والانتماء، مؤكدين أن الانتساب إلى مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، يُعدّ شرفًا رفيعًا يسمو على كل التجاذبات السياسية؛ نظرًا لدوره التاريخي في قيادة حرب الاستقلال وتأسيسه تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية.
بينما اعتبرت فئات أخرى من المجتمع أن ما حدث يمثل خرقًا واضحًا للانضباط العسكري، وتوريطًا غير مقبول للجيش في الصراع الهوياتي الدائر بين المحافظين والعلمانيين، بل وعدّوه تلويحًا مبطنًا بانقلاب عسكري وشيك يهدف إلى الحفاظ على الهوية العلمانية، التي اعتبروها سمة مميزة لتركيا المستقلة.
ولم يقتصر هذا الجدل المحتدم على شريحة معينة من المجتمع، بل امتد نطاقه وتوسع ليشمل مختلف الأوساط، بدءًا من منصات التواصل الاجتماعي الصاخبة، مرورًا بالبرامج الحوارية التلفزيونية والإذاعية، ووصولًا إلى البيانات والتصريحات الرسمية الصادرة عن كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان.
وبالتوازي مع هذا الجدل المتصاعد، امتدت شرارة الأحداث لتشعل فتيل الحياة السياسية، حيث تواصل المعارضة المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، بل إن رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، ذهب إلى أبعد من ذلك بتحديد شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2025 موعدًا مقترحًا لإجراء هذه الانتخابات الحاسمة.
وأسهم كل هذا في زيادة حدة الاستقطاب الحاد على أسس سياسية وأيديولوجية متباينة، الأمر الذي ألقى بظلاله القاتمة على العديد من الأحداث التي تبدو للوهلة الأولى بعيدة كل البعد عن السياسة ومعتركها المحموم، كما سنرى لاحقًا.
عودة الكماليين
كشفت وسائل إعلام تركية عن أن الملازمة إبرو إيروأوغلو، التي قادت هتافات الخريجين بحماس، قد أجرت اتصالًا هاتفيًا بأحد كبار قادة الجيش لتبرير ما حدث، معللة ذلك بالرغبة في التمايز عن الجماعات والطرق الدينية المختلفة، وذلك على خلفية الاتهامات المتكررة بتغلغل هذه الجماعات في الكلية الحربية المرموقة.
وأعاد تبرير الضابطة إلى الأذهان نفوذ جماعة فتح الله غولن الواسع داخل الكليات العسكرية لفترة طويلة من الزمن، وكيف استغلت هذه الجماعة وسائل غير شرعية لإلحاق أتباعها بتلك الكليات، والتغلغل في صفوف القوات المسلحة بهدف السيطرة عليها.
وقد بلغت المواجهة بين الكماليين "الأتاتوركيين" وأتباع غولن ذروتها في محاكمات قضية أرغينيكون الشهيرة، التي شهدت اعتقال عدد كبير من العسكريين العاملين والمتقاعدين على دفعات متتالية، بدءًا من عام 2007، بتهمة التآمر على حكومة حزب العدالة والتنمية المنتخبة ديمقراطيًا، والتجهيز للإطاحة بها بالقوة، قبل أن يتم الإفراج عنهم في عام 2014.
وفي أعقاب فشل محاولة الانقلاب المشؤومة التي شهدتها البلاد في 15 يوليو/تموز 2016، انطلقت حملات تطهير واسعة النطاق داخل الجيش، استهدفت عناصر تنظيم غولن المتورطين في هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، ما أتاح الفرصة للكماليين للتمدد مجددًا داخل المؤسسة العسكرية.
وجاءت حادثة قسم الخريجين لتسلط الضوء مرة أخرى على نفوذ الكماليين المتنامي داخل الجيش، كما أثارت تساؤلات جدية ومخاوف عميقة بشأن إمكانية حدوث انقلاب عسكري جديد يقوده ضباط كماليون، خاصة وأنهم قد نفذوا بالفعل جميع الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا منذ انقلاب مايو/آيار 1960، باستثناء المحاولة الأخيرة التي شارك فيها بعضهم تحت قيادة أتباع غولن.
أردوغان والقول الفصل
تطلّع الرأي العام التركي بترقب وانتظار شديدين لأكثر من أسبوع كامل، لمعرفة رد الرئيس أردوغان على هذه الأحداث المتسارعة، وما سيقوله بشأنها.
لكن خلال تلك الفترة العصيبة، كان الانقسام واضحًا وجليًا، بل إنه امتد إلى داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم نفسه، حيث بدت تصريحات المتحدث باسم الحزب، عمر جليك، وكأنها متفهمة للحدث، ومتعاطفة مع الخريجين، الأمر الذي عرضه لانتقادات حادة ولاذعة من شريحة واسعة من مؤيدي الحزب.
ولكن قبل الوصول إلى أردوغان وإعلانه عن موقفه الرسمي، جاء رد الفعل المهم من رئيس حزب الحركة القومية، الشريك القوي في التحالف الحاكم، دولت بهجلي، الذي أصدر بيانًا مطولًا وشديد اللهجة رفض فيه ما حدث رفضًا قاطعًا، داعيًا إلى عدم التمترس خلف شخصية أتاتورك التاريخية، ومؤكدًا أن "الجيش التركي هو جيش القانون وخرج من قلب الأمة التركية"، ومشددًا في الوقت نفسه على "انتهاء فترات الانقلاب" التي وصفها بـ "الفترات المظلمة" في تاريخ البلاد.
وأوضح بيان بهجلي بجلاء أن الدولة لن تتساهل مع ما حدث أو تتغاضى عنه، وهو ما أكد عليه أردوغان لاحقًا خلال كلمته أمام المؤتمر الحادي والعشرين لمدارس "الأئمة والخطباء"، حيث بدت إستراتيجية المواجهة – وفق تصريحاته – كالتالي:
- اعتبار الحادثة بمثابة إنذار مبكر باحتمالية وقوع انقلاب عسكري، ولو على المدى المتوسط، ريثما يتمكن هؤلاء الخريجون من الاندماج في الجيش والترقي داخله.
- إجراء تحقيقات فورية وشاملة من خلال عدة جهات أمنية مختصة، وتطهير الجيش من العناصر المتورطة في الحادث بشكل كامل.
- عدم السماح بتسييس الجيش أو استنزافه في صراعات سياسية داخلية، كما كان يحدث في الماضي القريب.
وفي تقديري المتواضع، فإن تلك الإجراءات التي أعلنها الرئيس أردوغان تبدو ضرورية وملحة لمعالجة الأزمة الحالية واحتوائها، إلا أنه ينبغي في الوقت نفسه وضع إستراتيجية متكاملة وطويلة الأمد لصيانة المؤسسة العسكرية وحمايتها من التدخلات السياسية وتجاذباتها المختلفة.
فمن الضروري بمكان الفصل التام بين شخصية أتاتورك كقائد ملهم لحرب الاستقلال ومؤسس للجمهورية التركية الحديثة، وبين الكمالية كأيديولوجية سياسية لعبت دورًا سلبيًا في إضعاف التطور الديمقراطي في البلاد، إما من خلال الانقلابات العسكرية الصريحة، أو بفرض أسلوب الوصاية غير المقبول على الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا.
الانتخابات المبكرة
وبالتوازي مع الجدل المحتدم حول مواجهة خطر الانقلابات العسكرية، أطلق رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزغور أوزيل، دعوته الصريحة لإجراء انتخابات مبكرة في نهاية العام المقبل 2025.
والمتتبع عن كثب لسلوك المعارضة التركية، وخاصة حزب الشعب الجمهوري، لا يستغرب إطلاق مثل هذه الدعوات المتكررة، فقد اعتاد المواطن التركي على سماعها عقب أي انتخابات يفوز فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ولكن بالتدقيق والتحقيق، نجد أن المعارضة لا تملك الأغلبية المطلوبة داخل البرلمان للدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة وفقًا للقانون.
كما أن هذا الإجراء سيمنح الرئيس أردوغان – وفقًا للدستور الحالي – الحق في الترشح للرئاسة مجددًا، رغم استنفاده بالفعل مدتين رئاسيتين كاملتين، ومواجهة المعارضة لخصم سياسي قوي ومحنك مثل أردوغان ليس بالأمر الهين على الإطلاق.
أيضًا، فإن الخلافات والانقسامات الداخلية العميقة داخل حزب المعارضة الرئيسي بشأن مرشحه الرئاسي المحتمل لا تخطئها العين، على الرغم من أن رئيس بلدية إسطنبول الحالي، أكرم إمام أوغلو، يُعتبر الأوفر حظًا والأقرب للفوز بهذا المنصب الرفيع، نظرًا لما يتمتع به من نفوذ هائل داخل الحزب.
وعلى الجانب الآخر، أعلن الرئيس أردوغان أكثر من مرة أن الانتخابات لن تتم إلا في موعدها المحدد سلفًا في عام 2028، معربًا عن أمله في نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي الطموح الذي تتبناه حكومته، وريثما ينتهي من ترتيب الأوضاع الداخلية في حزب العدالة والتنمية الحاكم.
الاستقطاب الهوياتي
ولكن، وبالرغم من الصعوبات والعقبات التي تحول دون إجراء انتخابات مبكرة في الوقت الراهن، فإن المعارضة تسعى جاهدة لدفع الجميع إلى تبني هذا الخيار، من خلال تعزيز الاستقطاب الهوياتي الحاد داخل المجتمع، ومحاولة تصوير الحكومة الحالية وكأنها عاجزة تمامًا عن تدبير شؤون الدولة وإدارة البلاد بكفاءة.
فعلى سبيل المثال، استغلت المعارضة اليسارية حادث مقتل الطفلة "نارين" المأساوي في ولاية ديار بكر ذات الغالبية الكردية استغلالًا سياسيًا غريبًا ومستنكرًا، على الرغم من عدم وجود أي دوافع سياسية وراء هذا الحادث الأليم.
فالمشتبه بهم الرئيسيون في القضية هم من داخل أسرة الطفلة نفسها، وجميعهم حاليًا قيد التوقيف والتحقيق، ولكن فوجئ الرأي العام العاض بمظاهرات حاشدة اندلعت في عدة مناطق مختلفة للمطالبة بإغلاق دورات تحفيظ القرآن الكريم وحظر الطرق الدينية بشكل كامل!
ولم يكن هذا الأمر عفويًا أو مصادفة، بل كان مرتبًا ومنظمًا بعناية فائقة، فقد أكد بيان صادر عن وزير الداخلية التركي، أن الفترة ما بين 21 أغسطس/آب الماضي إلى 9 سبتمبر/أيلول الجاري قد شهدت الأحداث التالية:
- تمت مشاركة ما يقرب من 5 ملايين تغريدة على منصة "إكس" بشأن حادث مقتل الطفلة نارين.
- هذه التغريدات تمت مشاركتها من قبل أكثر من مليون وثلاثمائة ألف حساب مختلف.
- تبين أن 38.3% من هذه الحسابات عبارة عن حسابات آلية وهمية، وأن 76% من المحتوى المنشور كان استفزازيًا وسلبيًا ويهدف إلى إثارة الفتنة.
هذه الأرقام المذهلة تشرح بوضوح كيف تم استغلال هذا الحادث المؤلم والمأساوي سياسيًا وأيديولوجيًا، للترويج لفكرة عدم قدرة الحكومة الحالية على حماية الأطفال وضمان سلامتهم، بالتزامن مع الدفع بكل قوة باتجاه إجراء انتخابات مبكرة لتغيير النظام.
ومن هنا، فلا يُتوقع أن تشهد تركيا نهاية قريبة لهذا الاستقطاب الحاد، إذ تدرك المعارضة تمام الإدراك أن الرئيس أردوغان يعمل حاليًا على ملفين رئيسيين وحيويين: إصلاح الاقتصاد المتعثر، ووضع دستور جديد للبلاد، وهو الأمر الذي سيعزز – حال نجاحه – فرص بقاء التحالف الحاكم في السلطة لفترة أطول، وهو ما تسعى المعارضة جاهدة لإفشاله بشتّى السبل والوسائل الممكنة.